الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (16- 18): {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}وقوله: {وَجَاءُو أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}: أي: وقْتَ العشاءِ، وقرأ الحسن: {عُشى}؛ على مثال دُجىً، جمع عاشٍ، ومعنى ذلك: أصابهم عشى من البكاء أو شبه العَشَى، إذ كذلك هي عَيْنُ الباكي؛ لأنه يتعاشَى، ومثَّل شُرَيْحَ امرأة بكَتْ، وهي مبطلةٌ ببكاءِ هؤلاءِ؛ وقرأ الآية، و{نَسْتَبِقُ}: معناه: على الأقدام، وقيل: بالرمْي، أي: ننْتَضِلُ، وهو نوعٌ من المسابقة؛ قاله الزَّجَّاج، وقولهم: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا}: أي بمصَدِّق لنا، {وَلَوْ كُنَّا صادقين}، أي: ولو كنا موصوفين بالصِّدْقِ، ويحتمل أنْ يكون قولهم: {وَلَوْ كُنَّا صادقين}: بمعنى: وإن كنا صادقِينَ في معتَقَدِنا.وقوله سبحانه: {وَجَاءُو على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}: روي أنهم أَخَذُوا سَخْلَةً أَوْ جَدْياً، فذبحوه، ولَطَّخُوا به قميصَ يُوسُفَ، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه وبكَى ثم تأمَّله، فلم يَرَ خِرَقاً، ولا أثر نابٍ؛ فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: كان الذئْبُ حليماً يأكُلُ يوسُفَ، ولا يخرق قميصَهُ؛ قصَّ هذا القَصَصَ ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم بصحَّة القميصِ، واستند الفقهاءُ إِلى هذا في إِعْمَالِ الأماراتِ في مسائِل؛ كالقَسَامة بها في قول مالكٍ إِلى غير ذلك. قال الشعبيُّ: كان في القميصِ ثلاثُ آيات: دلالتُهُ على كذبهم، وشهادَتُهُ في قَدِّه، ورَدُّ بَصَرِ يَعقُوبَ به، ووصف الدَّم بالكَذِبِ الَّذي هو مَصْدَرٌ على جهة المبالغةِ، ثم قال لهم يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ}، أي: رَضيَتْ وجَعَلَتْ سؤلاً ومراداً {أمْراً}، أي: صنعاً قبيحاً بيوسف.وقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: إِما على حذف المبتدأ، أي: فشأني صبرٌ جميلٌ، وإِما على حَذْفِ الخبر، تقديره: فصبرٌ جميلٌ أَمْثَلُ، وجميلُ الصَّبْرِ: أَلاَّ تقع شَكْوَى إِلى بشر، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَثَّ، لَمْ يَصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً». وقوله: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ}: تسليم لأمر اللَّه تعالى، وتوكُّل عليه..تفسير الآيات (19- 22): {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}وقوله سبحانه: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ}: قيل: إِن السيارة جاءَتْ في اليومِ الثاني من طرحه، والسيارةُ: بتاءُ مبالغةٍ للذين يردِّدون السيْرَ في الطُرق.قال * ص *: والسَّيَّارَة: جمع سَيَّار، وهو الكثيرُ السَّيْر في الأرض. انتهى. والوَارد: هو الذي يأتي الماءَ يستَقي منه لجماعته، وهو يَقَعُ على الواحدِ وعلى الجَمَاعَةِ. وروي أنَّ مُدْلِيَ الدَّلْو كان يسمَّى مَالِكَ بْنَ دعر، ويروَى أَنَّ هذا الجُبَّ كان بالأُرْدُنِّ على ثلاثةِ فراسِخَ من منزل يَعْقُوبَ، ويقال: أدلَى دلْوَهُ؛ إِذا ألقاه ليستقِيَ الماءَ، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: فتعلَّق يوسُفُ بالحَبْل، فلما بَصُرَ به المُدْلِي، قال: {يابشراي}، وروي أنَّ يوسُفَ كان يومئِذٍ ابنَ سَبْعَ سِنينَ؛ ويرجِّح هذا لفظةُ {غُلاَمٌ}؛ فإِنها لِمَا بَيْنَ الحولَيْن إِلى البلوغِ، فإِن قيلتْ فيما فَوْقَ ذلك، فعلى استصحاب حالٍ، وتجوُّزٍ، وقرأَ نافعٌ وغيره: {يا بُشْرَايَ} بإِضافةِ البُشْرَى إِلى المتكلِّم، وبفتح الياء على ندائها؛ كأنه يقولُ: احضري، فهذا وَقْتُكِ، وقرأ حمزة والكسائي: {يَا بُشْرى}، ويميلاَنِ ولا يضيفَانِ، وقرأ عاصمٌ كذلك إِلاَّ أَنه يفتح الراءَ ولا يُمِيلُ، واختلف في تأويل هذه القراءة، فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رَجُلٌ اسمه بُشْرَى؛ فناداه، وأعلمه بالغلامِ، وقيل: هو على نداءِ البُشْرَى؛ كما قدَّمنا.وقوله سبحانه: {وَأَسَرُّوهُ بضاعة} قال مجاهد: وذلك أنَّ الوُرَّاد خَشُوا من تُجَّار الرفْقة، إِنْ قالوا وجدْنَاه؛ أنْ يشاركوهم في الغُلاَمِ الموجُودِ، يعني: أو يمنعوهم من تملُّكه، إِن كانوا أخياراً، فأسروا بينهم أنْ يقولُوا: أَبْضَعَهُ مَعَنَا بعْضُ أهْلِ المِصْرِ، و{بِضَاعة}: حالٌ، والبضاعة: القطعةُ من المالِ يُتْجَرُ فيها بِغَيْرِ نصيبٍ من الرِّبْحِ؛ مأخوذة من قولهم: بَضْعَة؛ أي: قطعة، وقيل: الضمير في {أَسَرُّوه} يعود على إِخوة يوسف.وقوله سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}: {شروه}؛ هنا: بمعنى بَاعُوه، قال الداوديُّ: وعن أبي عُبَيْدة: {وَشَرَوْهُ} أي: باعوه، فإِذا ابتعت أَنْتَ، قُلْتَ: اشتريت انتهى، وقال ابن العربيِّ في أحكامه: قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}: يقال: اشتريت بمعنى بِعْتُ، وَشَرَيْتُ بمعنى اشتريت؛ لغة انتهى، وعلى هذا، فلا مانِعَ مِنْ حمل اللفظ على ظاهره، ويكون {شَرَوْهُ} بمعنى: اشتروه.قال * ع *: روي أن إِخوة يُوسُفَ لمَّا علموا أن الوُرَّاد قد أخذوه جاؤوهم، فقالوا: هذا عَبْدٌ قد أَبَقَ منا، ونحنُ نبيعُهُ منكم، فقارَّهم يوسُفُ على هذه المقالة؛ خوفاً منهم، ولينفذ اللَّه أمره، وال {بَخْسٍ}: مصدر وُصِفَ به الثمن، وهو بمعنى النَّقْصِ.وقوله: {دراهم مَعْدُودَةٍ}: عبارةٌ عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم، لم تبلغْ أنْ توزَنَ لقلَّتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنُونَ ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهماً.وقوله سبحانه: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين}: وصفٌ يترتب في إِخوة يوسف، وفي الوُرَّاد، ولكنَّه في إِخوة يوسف أرتَبُ؛ إِذ حقيقة الزهْدِ في الشيء إِخراجُ حُبِّه من القَلْبِ ورَفْضُهُ من اليدِ، وهذه كانَتْ حالَ إِخوة يوسُفٌ في يوسُفَ، وأمَّا الورَّاد، فإِنَّ تمسُّكَهم به وتَجْرَهُمْ يمانِعُ زُهْدَهم إِلا على تجوُّزٍ، قال ابْن العربيِّ في أحكامه: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين}: أي: إِخوته والواردة، أَما إِخوته؛ فلأنَّ مقصودهم زوالُ عَيْنِه، وأما الواردة، فلأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم.انتهى.وقوله سبحانه: {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا}: روي أنَّ مبتاع يوسُفَ وَرَدَ به مصْرَ البلدِ المعروفِ؛ ولذلك لا ينصرفُ، فَعَرَضَهُ في السُّوقِ، وكان أجْمَلَ الناس، فوقَعَتْ فيه مزايدةٌ حتى بلغ ثمناً عظيماً، فقيل: وزنه من ذهبٍ، ومن فضةٍ، ومن حريرٍ، فاشتراه العزيزُ، وهو كان حَاجِبَ المَلِكِ وخازِنَة، واسم المَلِك الرَّيَّانُ بْنُ الوَلِيدِ، وقيل: مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، وهو أحد الفراعِنَةِ، واسمُ العزيزِ المذْكُورِ: قطيفين؛ قاله ابن عباس، وقيل: أظفير، وقيل: قنطور، واسم امرأته: رَاعيل، قاله ابنُ إِسحاق، وقيل: زُلَيْخَا، قال البخاريُّ: و{مَثْوَاهُ}: مَقَامُهُ.وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي: نتبنَّاه، وكان فيما يُقَالُ: لا ولد له، ثم قال تعالى: {وكذلك}، أي: وكما وصفْنا {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ} فعلنا ذلك، و{الأحاديث}: الرؤيا في النوْمِ؛ قاله مجاهد، وقيل: أحاديث الأنبياء والأمم، والضمير في أمره يحتمل أنْ يعودَ على يوسف؛ قاله الطبري، ويحتملُ أن يعود على اللَّهِ عزَّ وجلَّ؛ قاله ابن جُبَيْر، فيكون إِخباراً منبِّهاً على قدرة اللَّه عزَّ وجلَّ ليس في شأن يوسُفَ خاصَّة، بل عامًّا في كل أمر، والأَشُدَّ: استكمال القوة وتناهِي بِنْيَةِ الإِنسان، وهما أَشُدَّان: أولهما، البلوغ، والثاني: الذي يستعمله العرب.وقوله سبحانه: و{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: يحتمل أن يريد بالحُكْم: الحكمة والنبوَّة، وهذا على الأشُدِّ الأعلَى، ويحتملُ أن يريد بالحُكْمِ: السلطانَ في الدنيا وحكماً بين الناس، وتدخُلُ النبوَّة وتأويلُ الأحاديث وغير ذلك في قوله: {وَعِلْماً}، وقال ابن العربيِّ: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: الحُكْم: هو العَمَلُ بالعلْمِ. انتهى.وقوله سبحانه: {وكذلك نَجْزِي المحسنين}: عبارةٌ فيها وعد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، أي: فلا يهولَنَّكَ فعل الكَفَرة وعتوّهم عليك، فاللَّه تعالى يصنع للمحْسِنِين أجْمَلَ صنع..تفسير الآيات (23- 24): {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}وقوله سبحانه: {وراودته التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ}: المراودة: الملاطفةُ في السُّوق إِلى غرضٍ، و{التي هُوَ فِي بَيْتِهَا} هي زُلَيْخَا امرأةُ العزيز، وقوله: {عَن نَّفْسِهِ}: كنايةٌ عن غرض المواقعة، وظاهرُ هذه النازِلة أنها كانَتْ قبل أنْ ينبَّأ عليه السلام، وقولها: {هَيْتَ لَكَ}: معناه: الدُّعاء، أيْ: تعالَ وأقْبِلْ عَلَى هَذا الأمْرِ، قال الحَسن: معناها: هَلُمَّ، قال البخاريُّ: قال عكرمةُ: {هَيْتَ لَكَ} بالحُورَانِيَّةِ: هَلُمَّ.وقال ابن جُبير: تَعَالَهْ، انتهى.وقرأ هشام عن ابن عامرٍ: {هِئْتُ لَكَ}- بكسر الهاءِ والهمزِ وضمِّ التاء-، ورويت عن أبي عَمْرو، وهذا يحتملُ أنْ يكون من هَاءَ الرجُلُ يَهِيءُ، إِذا حَسُن هيئته، ويحتمل أنْ يكون بمعنى: تَهَيَّأَتُ، و{مَعَاذَ}: نصب على المصدر، ومعنى الكلام: أعوذ باللَّهِ، ثم قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، فيحتمل أن يعود الضمير في {إِنه} على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويحتمل أنْ يريد العزيزَ سيِّدَهُ، أي: فلا يصلح لي أنْ أخونه، وقد أكْرَمَ مثواي، وائتمنني، قال مجاهد وغيره: {رَبِّي} معناه سَيِّدي وإِذا حفظ الآدميّ لإِحسانه فهو عمل زَاكٍ، وأحرى أن يحفظ ربه، والضمير في قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} مرادٌ به الأمر والشأن فقطْ، وحكى بعض المفسِّرين أنَّ يوسُفَ عليه السلام لمَّا قال: مَعَاذَ اللَّهِ، ثم دافَعَ الأمْرَ باحتجاج وملاينةٍ، امتحنه اللَّه تعالى بالهَمِّ بما هَمَّ به، ولو قال: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، ودافَعَ بِعُنْفٍ وتغييرٍ، لم يَهمَّ بشيء من المَكْروه.وقوله سبحانه: {وَهَمَّ بِهَا}: اختلف في هَمِّ يوسُفُ.قال * ع *: والذي أقولُ به في هذه الآية: أَنَّ كَوْنَ يوسُفَ عليه السلام نبيًّا في وقت هذه النازلة لم يصحَّ، ولا تظاهَرَتْ به روايةٌ، فإِذا كان ذلك، فهو مؤمنٌ قد أوتِيَ حكماً وعلماً، ويجوز عَلَيْه الهَمُّ الذي هو إِرادةُ الشيْءِ دون مواقَعَتِهِ، وأنْ يستصحب الخَاطِرَ الرديءَ؛ علَى ما في ذلك من الخطيئة، وإِن فرضْنَاه نبيًّا في ذلك الوقْتِ، فلا يجوز عليه عندي إِلاَّ الهَمُّ الذي هو الخاطرُ، ولا يصحُّ عندي شيْءٌ مما ذكر من حَلِّ تِكَّةٍ، ونحوِ ذلك؛ لأنَّ العِصْمة مع النبوَّة، وللَهمِّ بالشيْءِ مرتبتانِ، فالخاطرُ المجرَّد دون استصحاب يجوزُ عليه، ومع استصحابِ لا يَجُوزُ عليه؛ إِذ الإِجماع منعقدٌ أَنَّ الهمَّ بالمعصية واستصحابَ التلذُّذ بها غير جائزٍ، ولا داخِلٍ في التجاوُزِ.* ت *: قال عياضٌ: والصحيحُ إِن شاء اللَّه تنزيهُهُمْ أيضاً قبل النبوَّة مِنْ كُلِّ عيْبٍ، وعصمتُهُم مِنْ كُلِّ ما يوجبُ الرَّيْب، ثم قال عياضٌ بعد هذا: وأما قولُ اللَّه سبحانه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، فعلى طريق كثيرٍ من الفقَهَاء والمحدِّثين؛ أنَّ همَّ النفْس لا يؤاخذ به، وليس بسيِّئة، لقوله عليه السلام عن ربِّه: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ»؛ فَلاَ مَعْصِيَةَ في همه إِذَنْ، وأما علَى مذهب المحقِّقين من الفقهاء والمتكلِّمين، فإِن الهمَّ إِذا وُطِّنَتْ عليه النفْسُ سيئةٌ، وأَما ما لم توطَّن عليه النفس مِنْ همومها وخواطرها، فهو المعفوُّ عنه، وهذا هو الحقُّ، فيكون إِن شاء اللَّه هَمُّ يوسُفَ من هذا، ويكونُ قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي...} [يوسف: 53]: أي: مِن هذا الهَمِّ، أو يكون ذلك مِنْهُ على طريق التواضُع. انتهى.واختلف في البُرْهَان الذي رآه يوسُفُ، فقيل: ناداه جبريلُ: يا يوسُفُ، تَكُونُ في ديوانِ الأنبياءِ، وتفعلُ فِعْلَ السفهاءِ، وقيل: رأَى يعقوبَ عَاضًّا علَى إِبهامه، وقيل غير هذا، وقيل: بل كان البرهَانُ فِكْرَتَهُ في عذابِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ على المعصية، والبرهانُ في كلام العرب: الشيء الذي يُعْطِي القطْعِ واليَقِينَ، كان مما يَعلَمُ ضرورةً أو بخبرٍ قطعيٍّ أو بقياسٍ نظريٍّ {وأنْ} في قوله: {لَوْلا أَن رَّأَى} في موضع رفعٍ، تقديره: لولا رؤيته برهانَ رَبِّه، لَفَعَلَ، وذَهَبَ قومٌ إِلى أَنَّ الكلامَ تَمَّ في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، وأن جواب {لولا} في قوله: {وَهَمَّ بِهَا}، وأن المعنى: لولا أنْ رأَى البرهان لَهَمَّ، أي: فلم يهمَّ عليه السلام، وهذا قولٌ يردُّه لسانُ العربِ، وأقوالُ السلَفِ * ت *: وقد ساقَ عيَاضٌ هذا القولَ مساق الاحتجاج به متَّصلاً بما نقَلْناه عنْه آنفاً، ولفظه: فكيف، وقَدْ حكَى أبو حاتمٍ عن أبي عُبَيْدة، أن يوسف لم يَهِمَّ، وأنَّ الكلام فيه تقديمٌ وتأخير، أي: ولقد همَّتْ به، ولولا أنْ رأَى برهانَ ربه لَهَمَّ بها، وقد قال اللَّه تعالى عن المرأة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32]، وقال تعالى: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء}، وقال: {مَعَاذَ الله...} الآية. انتهى. وكذا نقله الداودي ولفظه: وقد قال سعيدُ بْنَ الحَدَّاد: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، ومعناه: أنه لولا أنْ رأَى برهان ربِّه لَهَمَّ بها، فلمَّا رأى البرهان لم يَهِمَّ، انتهى. قال ابن العربيِّ في أَحكامه: وقد أخبر اللَّه سبحانه عن حالِ يوسُفَ من حين بلوغه بأنه آتاه حكماً وعلماً، والحُكْم: هو العمل بالعلم، وكلامُ اللَّه صادِقٌ، وخبره صحيحٌ، ووصفه حَقٌّ، فقد عَمِلَ يوسُفُ بما عَلَّمه اللَّه من تحريم الزنا، وتحريم خيانةِ السيِّد في أهْله، فما تعرَّض لامرأةِ العزيز، ولا أناب إِلى المُرَاودة، بل أَدْبَرَ عنها، وَفَّر منها؛ حِكْمَةٌ خُصَّ بها، وعملٌ بما علَّمه اللَّه تعالى، وهذا يطمس وُجُوهَ الجَهَلَةِ مِنَ النَّاس والغَفَلَةِ من العلماءِ في نسْبتهم إِلى الصِّدِّيقِ ما لا يليقُ، وأقلُّ ما اقتحموا مِنْ ذلك هَتْكُ السراويلِ، والهَمُّ بالفَتْكِ فيما رَأَوْهُ من تأويلٍ، وحاشاه من ذلك، فما لهؤلاء المفسِّرين لا يكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؛ يقولون: فَعَلَ فَعَلَ، واللَّه تعالى إِنما قال هَمَّ بها، قال علماء الصوفيَّة: إِن فائدة قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا...} [يوسف: 22] أن اللَّه عزَّ وجلَّ أعطاه العلْمَ والحكْمة؛ بأن غلب الشهوة؛ ليكون ذلك سبباً للعصْمَة، انتهى.والكافُ من قوله تعالى: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء}: متعلِّقةٌ بمضمرٍ، تقديره: جَرَتْ أفعالنا وأقدارنا كذلك؛ لنصرفَ، ويصحُّ أن تكون الكافُ في موضِعِ رفعٍ بتقديرِ عصمَتَنا له كَذَلك، وقرأ ابن كثير وغيره: {المُخْلِصِينَ}- بكسر اللام- في سائر القرآن، ونافع وغيره بفَتْحها..تفسير الآيات (25- 29): {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}وقوله تعالى: {واستبقا الباب...} الآية: معناه: سَابَقَ كُلُّ واحدٍ منهما صاحبه إِلى البابِ، هي لتردَّه إِلى نفسها، وهو ليهرُبَ عنها، فقبضَتْ في أعلى قميصِهِ، فتخرَّق القميصُ عند طَوْقِهِ، ونَزَلَ التخريقُ إِلى أسفلِ القميصِ، قال البخاريُّ: {وَأَلْفَيَا}: أي: وَجَدَا؛ {أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ} [الصافات: 69] وجدوهم. انتهى، والقَدُّ: القطْع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طُولاً، والقَطُّ: يستعمل فيما كان عَرْضاً، و{أَلْفَيَا}: وجَدَا، والسيِّد: الزوْج؛ قاله زيد بن ثابتٍ ومجاهدٌ.وقوله سبحانه: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا...} الآية: قال نَوْفٌ الشاميُّ: كان يوسُفُ عليه السلام لم يُبِنْ على كشف القصَّة، فلما بَغَتْ عليه، غَضِبَ، فقال الحقَّ، فأخبر أنها هي راوَدَتْه عَنْ نفسه، فرُوِيَ أن الشاهد كان ابن عَمِّها، قال: انظروا إِلى القميص، وقال ابن عباس: كان رجلاً من خاصَّة الملك؛ وقاله مجاهد وغيره، والضمير في رأَى هو للعزيز، وهو القائلُ: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ}؛ قاله الطبريُّ، وقيل: بل الشاهدُ، قال ذلك، ونَزَعَ بهذه الآية مَنْ يرى الحُكْم بالإِمارة من العلماء؛ فإِنها معتمدهم، و{يوسُفُ} في قوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}: منادًى، قال ابن عباس: ناداه الشاهدُ، وهو الرجلُ الذي كان مَعَ العزيزِ، و{أَعْرِضْ عَنْ هذا}: معناه: عن الكلامِ بِهِ، أي: اكتمه، ولا تتحدَّث به، ثم رَجَعَ إِليها، فقال: {واستغفري لِذَنبِكِ}، أي: استغفري زَوْجَكَ وسيِّدَكَ، وقال: {مِنَ الخاطئين}، ولم يقل من الخاطئات؛ لأن الخاطئين أعمُّ.
|